الجمعة، 7 يوليو 2017

حفرة الورقة الرابعة

الرسالة الرابعة
أماه لا تطيلي الغياب
بسم الله الرحمن الرحيم
أمي الحبيبة والحنونة والغالية والعزيزة يا كل حياتي، يا من كنت سنداً لي طوال سنوات عمري السابفة، يا من كنت بجانبي في كل أوقاتي، تشاركيني أفراحي وأحزاني، يا من كنت أرى الدموع في عينيها مع كل موقف أمر به، دموع السعادة والفرح والفخر عندما أكون سعيدة، في أعياد ميلادي وأنت تحضرين لي أجمل الاحتفالات رغم بساطتها، في نهاية العام الدراسي وأنا أسلمك شهادة العلامات وقبلها شهادة التقدير، وأنت تشترين لي ملابسي الجديدة في المناسبات وكلما احتجت لذلك، ودموع الحزن والألم والشقاء كلما أمر بلحظة تعب أو أيام مرض أو حتى في الأوقات التي كنت أطلب منك فيها شيئاً وأنت لا تستطيعين تلبيته، دون أن أعلم أنك تحرمين نفسك من كل شيء حتى توفريه لي ولأخوتي؛ ودون أن أفقه أن جلوسك وراء ماكينة الخياطة لساعات وساعات كان من أجل توفير لقمة عيشنا وتحقيق سعادتنا، ودون أن ندري حجم المسؤولية الملقاة على كاهلك بعد أن سبقنا أبي إلى جنات رب العالمين شهيداً بإذن الله. لم نرك تبكيه أمامنا مرة واحدة بل كنت ترددين آيات الشهادة وأهازيج الاستشهاد وبركات الشهداء، لم تبكيه بعينيك أمامنا رغم أن قلبك كان يذرف الدماء لرحيله، ولكنك كنت ترددين هذا قدرنا وهذا نصيبنا والحمد لله أننا سنجد من يشفع لنا عند رب العالمين. أواه يا أمي كم كنت أشعر بالدفء والحنان وأنا أتسلل إلى سريركما لأجلس بينكما دقائق معدودة قبل النوم كعادتي وأنا طفلة، وأنت تقولين لي لقد كبرت يا ليلي وأصبحت عروسة وأبوك بحاجة للراحة، ولكنه دائماً يقاطعك أتركيها فما زالت دلوعتنا الغالية  وصغيرتنا المحبوبة مهما كبرت. كم أشتاق إلى رؤية عيونك وأنت تتأمليه بعد عودته من عمل يوم طويل وكأنك تريدين أن تلبسيه ثياب الصحة والعافية وكلماتك تسابق نظراتك لتخففي عنه تعب الجسد والبال. آه يا أمي أين أنت أين ذهبت وتركتيني لوحدي مع إخوتي الصغار، فأنا اليوم بل في هذه اللحظات  كما أنت بالأمس، نظراتي تسابق  كلماتي في البحث عنك، ومشاعري  تسابق أقدامي في الذهاب يميناً وشمالاً عساني أجدك من جديد لأحضنك وتحضنيني أنا واخوتي. كم كان عصيباً أول أمس وأنت تزودين بكل ما أوتيت من قوة غربان الليل الذين أيقظونا في غيابات الدجى باقتحامهم لبيتنا، رغم أننا لم ننم من أيام طوال وهم يقذفون علينا حمم الحقد السوداء من البر والجو  والبحر، من أفواه مدافعهم وطائراتهم وبواخرهم وكأنهم يواجهون جيشاً عتيداً مدججاً بأعتى أنواع السلاح. اقتحموا بيتنا وهم يصرخون بأعلى صوتهم: أين المخربين؟ أين قمتم بتخبئتهم؟ أين عين النفق التي هربوا منها؟. استمروا في صراخهم وعبثهم في كل أغراض البيت رغم أنهم تيقنوا أن في البيت ليس سواك وأنا وإخوتي الصغار، ورغم تأكدهم أنه لا يوجد في البيت أي سلاح إلا سلاح الإيمان بالله والثقة به، وسلاح التمسك بثوابتنا والعودة إلى يافا مهما طال الزمن، ومهما تجبر العدو، كيف لا وأبي دائماً كان بنشد: العودة حق كالشمس، ودائم الحديث عن يافا وبحرها وساعتها ومسجدها وحواريها حتى أنني أصبحت أحفظ كل اسماء عائلات يافا، لا أعرف يا أمي كيف حينها نزلت السكينة في قلوبنا وإخوتي لم يخافوا ولم يصرخوا إلا عندما أقدم الجبناء على سحبك معهم بطريقة همجية تدل على خوفهم ورعبهم منك، وأنت بأنوثتك كشفت عورتهم وهم يشدوك من ملابسك التي كنت ترتدينها وكأنك تهمين بالخروج رغم أننا كنا في وقت متأخر من الليل، ومن يقدم على الخروج تحت زخات القذائف، ولكنك كنت تقولين لي السترة حلوة يا بنتي فقد تصيبنا قديفة ونستشهد ولا أحب أن يرانا الآخرون بملابسنا الخاصة بالنوم. ما أعظمك وأنت تعلمينا في كل الأوقات حتى العصيبة منها كل معاني الخير والعطاء والانتماء وحب الدين والوطن . وها هم الجبناء يستقوون على إمرأة عزلاء يبرحونها ضرباً ويهددونها بقتل أبنائها أمام عينيها لعلها تشي بمعلومة تحقق لهم مرادهم بدلهم على المجاهدين. المجاهدون  الذين ألقنوهم دروسا في الحرب والقتال والمواجهة لن ينسوها أبدا، بل ستبقى وصمة عار بحقهم طوال حياتهم، كانوا يعتقدون أنها سويعات وسيقضون على هؤلاء المخربين ولكن المفاجأة تلو الأخرى التي أعدها المجاهدون لهم لم تكن بالحسبان، ولكنها معية الله التي جعلت المجاهدين يخرجون للاحتلال براً وجواً وبحراً. استقووا عليك يا أمي ونزعوك من بيننا ولا أدري أين أخذوك. مخطئون إن ظنوا أنهم سيحصلون منك على معلومة واحدة، وهم لا يعرفون عزيمتك وشكيمتك وصبرك وتحملك الأذى فالوطن غالٍ، وهؤلاء الذين يبحثون عنهم هم من حفظوا لنا عزتنا وكرامتنا فكيف من أرضعتنا هذه المعاني تخذلهم وتدل المجرمين عليهم!. أماه بعد خروجك لم يبق في بيتنا إلا أثار صوتك ومعالم حركتك في البيت الذي يحن لك، وماكنة الخياطة ما زالت عليها قطعة القماش التي بدأت تحيكينها فستاناً جميلاً كعادتك لألبسه في العيد، وها هو العيد قد اقترب فلا تطيلي الغياب يا أماه، فأنا وإخوتي في انتظارك

حبيبتك ليلى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق