مقال عن مرحلة العودة في مجلة مدارات الصادرة عن وزارة الثقافة
كرس الاحتلال الصهيوني وأعوانه منذ بداية الاحتلال كل وقتهم واهتماماتهم للعمل على تدجين الشعب الفلسطيني بكافة الوسائل والطرق، العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من الوسائل، ليزرعوا في أبناء فلسطين ثقافة الهزيمة والانكسار والخنوع والقبول بالأمر الواقع، فكانت النكبة والنكسة والتهجير، وبعدها محاولة مسح الهوية من عقول الجيل الجديد، واغتيالات هنا وهناك، وحروب واجتياحات منها الفرقان وحجارة السجيل والعصف المأكول في غزة، واعتقالات ومداهمات للبيوت شبه يومية في الضفة، جعلوا من المواطن الفلسطيني لاجئاً في وطنه وفوق أرضه، بل وفي الشتات كذلك، حيث المخيمات التي نصبت له هنا وهناك، يعيش بها ردحاً من الزمن معلوم البداية، ولكنه مجهول النهاية. وقد يجور القريب قبل الغريب عليه، فيضطر للتنقل، أو قل للتشرد من مخيم إلى مخيم، ومن شتات إلى شتات، بل من مأساة إلى مأساة. دمر المحتل البيوت والبنى التحية للاقتصاد الفلسطيني ليبقى الشعب الفلسطيني يدور في دوامة المساعدات الخارجية ومرتبطاً بالقرارات الصهيونية والاقتصاد الصهيوني. يريد المحتل أن يبقى حال الفلسطيني في انشغال دائم، ليس مسموحاً له بالاستقرار في حياته إلا إذا تنازل عن كرامته، وعن هويته، فيصبح فلسطينياً بلا هوية، بلا جذور، وبلا أرض. بل إنهم يحاولون جاهدين على أن يسلبوه الزمان كما سلبوه المكان.
ولكن كل هذه الوسائل والمحاولات تحطمت أمام صمود هذا الشعب الصابر المرابط، وتمسكه بأرضه وعدم قبوله بالتخلي عن ذرة تراب من تراب فلسطين، ولأنها فلسطين تعالى المواطن الفلسطيني على كل جراحاته وهمومه، فهم الوطن أكبر وأهم. مات الكبار وورثوا حب الوطن لأحفادهم، علموهم أن حب الأوطان من الإيمان، وأن كرامة الإنسان بحياته حراً على أرضه، فلا وجود للمحتل بيننا، كانت وصية الشيوخ للأحفاد: (.. لا تهدأ أعلنها ثورة.. حطم قيدك... اجعل لحمك جسر العودة.. فليمسي وطني حرا ... فليرحل محتلي فليرحل)، وفهموهم مغزى كلمات الرنتيسي: (لا نفرق بين فلسطين وفلسطين فيافا كغزة وتل الزهور كرفح والجليل كالخليل لا نفرق بين شبر وشبر من الوطن). كبر الصغار وكبر معهم حب الوطن، حب عكا وحيفا، حب العودة ليافا وللمجدل، وكبرت معهم الحجارة التي هرب الجنود منها، لتصبح بندقية وصاروخ، وليتحول هذا الحب إلى إبداعات في مقارعة اليهود ومواجهتهم في كافة الميادين، والتنغيص عليهم وكشف حقيقتهم وجرائمهم أمام العالم، وما أعظمها من جريمة جريمة اغتصاب الأرض، فكانت مسيرات العودة، التي سطر فيها المواطن الفلسطيني أسمى آيات الانتماء لهذا الوطن السليب، خرج الجميع وما زالوا يخرجون صغاراً قبل الكبار، وشيوخاً قبل الشباب، ونساءً قبل الرجال، ليقولوا للعالم: انتهت مرحلة البكاء على الأطلال، انتهت ثقافة الملاطم، انتهى زمن الخنوع والانكسار، انتهت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، انتهت مرحلة الهزائم والنكبات والنكسات، وها نحن نخطط بأجسادنا ونرسم بدمائنا خارطة طريق جديدة، يعلن فيها الجميع أنهم شوكة في حلق الاستعمار، وأنهم مستمرون في هذه المسيرات التي ما هي إلا وسيلة من وسائل دحر العدو مهما كانت التضحيات، ومهما ازداد عدد الشهداء والجرحى، يرتقي الشهيد وتجد عائلته في الأسبوع التالي في الصفوف الأولى من المشاركين في هذه المسيرات المباركة، يصاب الجريح فتجده متلهفاً للشفاء ليعود من جديد ليقف أمام السلك الزائل ويعلنها مدوية في وجه المحتل: (يا مستعمر: اصحى وفكر حنا نشامى ما نرضى العار، ما بنتخلى عن حبة رملة ويشهد الله يا ثوار). نعم هذا هو حال الشعب الفلسطيني يجود بالغالي والثمين، فهو يرى بعين الواثق بنصر الله وتمكينه أن التحرير قادم لا محالة، وأن العودة قريبة، وأن العدو إلى زوال قريباً بإذن الله، فهذا هو وعد الله. ويقترب تحقيق هذا الوعد كلما اقتربنا إلى الله، وتقترب مرحلة العودة كلما عدنا إلى ديننا إلى قرآننا، إلى سنة نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، (يا أيها الذين أمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، تقترب العودة كلما عدنا إلى ثوابتنا الوطنية وتمسكنا بها، وتقترب مرحلة النصر والتحرير كلما توحدنا ونبذنا الفرقة والانقسام. واسمعوا إلى القادة الشهداء حينما يقول أبو عمار: (إن ثورتكم هذه وجدت لتنتصر، وستنتصر طال الزمن أو قصر)، وحينما يقول أسد فلسطين: (سننتصر أيها الإخوة وتنهزم أمريكا وينهزم الكيان الصهيوني)، فالنصر قريب بإذنه تعالى وصدق من قال: (إنما النصر صبر ساعة)، وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال: (وإن النصر مع الصبر).
هنيئاً لفلسطين بأبنائها الصامدين الصابرين المحتسبين، وما الشدائد إلا مقدمات النصر، وما الابتلاءات إلا تمهيداً للتمكين والتحرير، وهنيئاً لأبناء فلسطين بمشاركتهم في مسيرات العودة وصبرهم على كل ما يحاك بهم، هنيئاً لهم بجهادهم وتضحياتهم وثباتهم ورباطهم على ثرى هذه الأرض المباركة الذي ارتوى بدماء الشهداء، وعرق المجاهدين، ودموع المرابطين على الثغور، يقفون على مشارف الوطن ويتطلعون إلى تحريره، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة.