الورقة الخامسة
لم تركتني وحيداً
عزيزي عماد انتهزت هذه اللحظات التي خيم بها السكون على حينا الذي لم يعرف طعم ومعنى السكون والهدوء والراحة منذ أيام عديدة، بل أصبحنا لا نعرف الليل من النهار، بسبب انقطاع الكهرباء المتواصل وضوء القنابل الفوسفورية التي تتساقط علينا كوابل من الأمطار فتجعل الليل كالنهار، ولم نعد نعرف أيام الأسبوع من بعضها السبت كالأحد كالجمعة، فمن منا يستطيع أن يخرج من البيت حتى للحظات، فالكل أصبح مطارداً ومطلوباً وتحت عدسات تلك الملعونة الزنانة التي لا تغادر سماءنا، بل تزيد عنادها بوقوفها محلقة لأوقات طوال وكأنها تنتظر صيداً ثميناً لتنفث عليه حقدها بصواريخها الموجهة والموجعة، لأنها قلما أخطأت هدفها، وما أسوأ صوتها الذي ينخر في رؤوسنا فيضيف له صداعاً ودوياً ينافس دوي صواريخ غربان الاف ١٦ و ١٧ ولا أدري إلى أي رقم وصلوا!، فكل يوم يضيفوا لأسطولهم طرازاً جديداً، ليس فقط في سلاحهم الجوي بل البري والبحري كذلك، وتشعر أنها مسابقة بين هذه الأساطيل، من يتفنن أكثر في إيذائنا نفسياً وواقعياً! فكم هي الغارات الوهمية التي تقض مضاجع الكبير قبل الصغير، والتي يهتز لها البنيان قبل الإنسان، وكأن البيوت ترقص مع كل طلة غير بهية لهذه الأسراب الجوية والبحرية والبرية، وكم هي الضربات الحقيقية التي تتطاير معها أشلاء ودماء الأطفال والشيوخ والنساء في كل مكان. عزيزي عماد كم أنا حزين أنني لم أتمكن من الخروج معكم لأشارككم شرف الجهاد وواجب الدفاع عن أهلنا وشعبنا وبلادنا، ولنقول لهذا العدو الجبان ارجع من حيث أتيت، ليس لك مكان هنا فهنا أرضي وهنا وطني، وأما أنتم ستعودون بإذن الله قريباً من حيث أتيتم، فلا مكان لكم هنا، لن تعيشوا فوق أرضي لن تطيروا في سمائي، أتذكر يا صديقي العزيز بل أخي الحبيب عندما كنت أبدأ أردد هذا النشيد: اقــتـلـونـي مـزقـونــي أغـرقوني فـي دمائـي، كنت لا تجعلني أكمل البدايات، وتقول لي إنتهى هذا الزمن الذي يقتلونا فيه ونحن لا نرد الصاع صاعين ، وتكمل قائلاً: إنشد من النهاية، فهذا هو حالنا اليوم، ولا تكمل كلماتك حتى تبدأ تدندن:
يا سـيـوف الله هـبــــوا مـن سـبـات الـضـيــاء، لـقـنـوا الباغـيـن درسـاً واقـذفـوهـم للـفـنــــاء، أشـبعوا الكفار ضـرباً شـردوهم في الـعـراء.
وتقول اليوم نغزوهم ولا يغزونا، آه يا عماد كم أتألم لعدم خروجي معكم هذه المرة، وأنا أشعر أن العدة والإعداد والعتاد أفضل من ذي قبل، ولكنه قدر الله، كنت أترجاكم ولكنكم تقولون لي ابق هنا فلك دور كبير في تهدئة العوائل وطمأنتها، وتمازحني وتقول: لا تكن طماعاً كثيراً يا يحيى، فلقد سبقتك قدمك وذراعك للجنة، ولكن يا عماهد باقي الجسد ما زال هنا، في هذه الدنيا الفانية كم كان بوده أن يقارع الأعداء وينال منهم أو أن يلحق بما سبقه من أعضاء. عماد أكتب لك هذه الكلمات وأنا أعرف أنك خرجت قاصداً وجه الله، وأنت تردد مقولة شيخنا الشهيد أملي أن يرضى الله عني، هنيئاً لك يا عماد بخروجك مع إخوانك من نخبة المجاهدين لتكونوا في الصف الأول، هنيئاً لكم حب الله، فالله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، هنيئاً لكم وأنتم تواجهون العدو على قلب رجل واحد، هنيئاً لكم بمعيّة الله، أعرِّفت يا عماد لماذا كنت أبكي دماً لخروجكم هذه المرة من دوني بعد أن تعودنا أن نكون جنباً إلى جنب، نحصن بعضنا البعض، ونثبت بعضنا، فكنا في الجبهة كالجسد الواحد، والآن أشعر أنني روح بلا جسد أو قل جسداً بلا روح، فوالله إن روحي وقلبي ومشاعري وجوارحي كلها معكم وبقى الجسد هنا، وكم هو تواق للحاق بكم، والله يا عماد لم أكترث لكل ما فعله الغربان في بيتي من قصف وتدمير وخراب كما تضايقت من نفسي لبقائي هنا، ولكن الله غالب كما كنت تواسيني دائماً. أهٍ يا عماد لم تركتني وحيداً؟! لن أمرر لك فعلتك هذه إلا إذا نفذت ما وعدتني به بأن تعود بصيد سمين وثمين لتشفِ به غليلنا، ولندخل الفرحة من جديد على بيوت غاب عنها الفرح منذ سنوات طوال، فاحرص على ذلك يا عزيزي ولا تطيل انتظارنا
محبك
يحيى