( عدي علينا بكرة) عبارة سمعناها كثيراً في الأفلام المصرية القديمة، والتي يظهر فيها الموظف الحكومي رث الثياب، معبساً باستمرار، وعلى مكتبه جبل من الملفات، والتي تراكم عليها الغبار، دلالة على أنه لم يكلف نفسه بفتحها منذ فترة ليست بالقصيرة. وللأسف هذه الأفلام إما تكون انعكاساً لواقع مجتمعي، أو توجيه المجتمع لسلوك معين، والحالتان أسوأ من بعضهما البعض. إن الموظف مهمته الأساسية خدمة المواطنين وتسهيل معاملاتهم وتذليل الصعاب في إجراءات هذه المعاملات إن وجدت. وليس كما يحلو للبعض تعقيد الأمور وزيادة الطلبات والأوراق، والتي بعضها قد يكون غير مهم، وكذلك التسويف في التنفيذ والمتابعة، والتأجيل بلا داعٍ. وإن سألته لماذا تطلب هذه الورقة؟ ولماذا تقوم بهذا الإجراء أو ذاك؟ فالجواب جاهز: هكذا تعودنا، هذا ما تعارفنا عليه، أو قل هذا ما ألفينا عليه آباءنا! وكأن الإجراءات المعمول بها مثالية؟ أو غير قابلة للتعديل وللتطوير ولحذف بعضها ولتسهيل أخرى.
صحيح أننا استلمنا موروثاً إدارياً رثاً، اجتهدت العديد من المؤسسات الحكومية في تعديله وتطويره، ولكن بكل صراحة نقول أننا لم نصل إلى المستوى المنشود والراقي والذي يليق بالمواطن الفلسطيني. نعم هناك تحسن في جودة الأداء، وهناك محاولات جادة في التحول الإلكتروني، وفي أن تصبح الحكومة الإلكترونية واقعاً عملياً؛ ولكننا بطبيعة المسلم لا نرضى بما وصلنا إليه، بل نطمح بالمزيد، ونطالب باستمرار في التطوير الإداري، وإلى تعميق التربية الإدارية، لتتكامل مع التربية الفكرية والإيمانية التي يتصف بها الموظفون. زادت معدلات الشفافية والنزاهة والمصداقية بصورة مثالية، بل يكاد ينعدم وجود عكس هذه المبادئ في الحياة العملية اليومية، ومع ذلك فالمنظومة الإدارية منظومة ديناميكية، تتطلب استمرار التعديل والتطوير والتغيير والإصلاح. وهذا يتطلب العمل بجدية على هندسة العمليات الإدارية والموارد البشرية. وأول هذه الخطوات يأتي مع اليقين بضرورة محاربة البيروقراطية، واعتبارها مرضاً يجب علاجه والشفاء منه بصورة كاملة، واليقين بأن كل الإجراءات قابلة للتعديل، وكل القرارات قابلة للتطوير والتغيير، وكل القوانين قابلة للدراسة من جديد، ويمكن سنها بما يتناسب مع الاحتياجات الآنية والمصلحة العامة. وهنا فكروا جيداً بعبارة رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد، حيث يقول: (حررنا بلدنا من البيروقراطية) حيث يعتبر أن بلده كانت مستعمرة من عدو غاشم، واستطاع أن يحررها منه، ومن هو هذا العدو؟ إنه البيروقراطية.
وحتى نتحرر من عدونا هذا، لا بد من المضي قدماً فيما أقرته الحكومة من نهج الإصلاح والحوكمة الرشيدة، وتطبيقه بكافة مكوناته ومحدداته وعلى كافة الفئات المعنية والمستهدفة. وهذا يعني أن هناك بعض النقاط التي لا بد منها لنجاح هذا التحرر، أهمها استشعار الأمانة والمسؤولية، وأن كلاً منا على ثغر، يجب أن يحصنه بصورة يحلل فيها الأجرة، ويضمن معها الأجر، ولذلك يجب أن يتزود بمجموعة من الأسلحة التي تساعده في التخلص من الموروث الذي بحاجة كما قلنا إلى تطوير، ومنها: القضاء على الروتين، والاستمرارية في نهج المرونة والتسامح في القرارات دون أن تمس جوهرها والعمل على تعديلها إن لزم الأمر، واحترام قدسية الوقت في الدوام والأهم في تنفيذ المعاملة، وعدم التسويف أو التأجيل مهما كان السبب، وفي هذا المجال يقول االطيب أردوغان: (لا أذكر أنني نمت ليلة واحدة وعلى مكتبي ورقه تحتاج إلى توقيع، لأنني أدرك أن التوقيع الذي لا يستغرق مني ثانيه قد يعطل مصالح الناس). وما أجمل أن يصاحب ذلك بشاشة في الاستقبال وابتسامة ترافق الحديث مع المراجعين، حينها وبكل تأكيد يمكننا أن نقول: وداعاً يا...بيروقراطية....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق