تسعى الدول المتقدمة إلى راحة مواطنيها، ولتقديم الخدمات اللازمة لهم وفق إمكاناتها وقدراتها على أحسن وجه. ومن أجل ذلك فهي تحسن من أدائها باستمرار، وتضع الخطط المدروسة، وتنفذ المشاريع التطويرية، وتنمي القدرات البشرية لهم، وتستحدث مفاهيم التنمية المستدامة والجودة والحكومة الالكترونية، وغير ذلك من مفاهيم تساهم في تقدم المجتمعات وتطورها وفق إدارة رشيدة. ولقد قسم علماء الإدارة الوظائف الإدارية لأي مؤسسة أو لأي عمل إداري حتى يتم تنفيذه بتميز إلى خمس وظائف وهي: التخطيط والتنظيم والتوظيف والتوجيه والرقابة. إذن للرقابة دور هام وحيوي وفعال في تحقيق الإدارة السليمة وفي تطبيق الحكم الرشيد. ولن نسهب في أهمية الرقابة وفوائدها وأهميتها وما تمثله من تغذية راجعة لصناع القرار والمسؤولين في سبيل التقييم والتقويم والتطوير، فهذا أمر من المفروض أن يكون بديهياً، وإن كان وأقولها للأسف: إن هذا المبدأ وهذا الإجراء الوقائي والتصحيحي بل والتطويري كذلك غير مرغوب به، بل وفي كثير من الأحيان قد يصبح أعضاء فريق الرقابة غير محبوبين من بعض الموظفين، لأنهم يعتقدون أنهم جاءوا ليتصيدوا الأخطاء، وليبحثوا عن نقاط التقصير في أعمالهم وفي إداراتهم. وكلنا يذكر العبارة المغلوطة (من راقب الناس مات هماً)، والتي كتبها الكثير من الطلبة على السبورة في أوقات الامتحانات، كمحاولة واهية لثني المدرس عن مراقبتهم، ليتمكنوا من الغش بدون رقيب، فالرقابة إذن أمر غير محبوب من النفس البشرية.
وأقولها بصراحة، إن مفهوم الرقابة الصحيح لم يصل في مجتمعاتنا إلى المستوى المطلوب، لا من الجهات القائمة عليها، ولا من الموظفين بصفة عامة، وهذا يتطلب جهداً أكبر من القائمين على هذا العمل الهام والأساس في الحياة العملية وخصوصاً الحكومية منها، مع التأكيد على أن المجتمعات النامية بحاجة إلى الرقابة على عملها أكثر من المجتمعات الراقية، وذلك لسد مداخل الفساد الإداري والمالي، والتي تعتبر العائق الأهم والأكبر أمام التنمية. وتتنوع الرقابة في الحكومة وتتعدد من أكثر من جهة، فهناك المجلس التشريعي الذي يمارس الرقابة من خلال لجانه المختلفة، وهناك ديوان الرقابة المالية والإدارية، والإدارة العامة للرقابة في وزارة المالية ولها مندوبون في كافة الوزارات، وكذلك وحدة الرقابة الداخلية في كل المؤسسات الحكومية (وإن اختلف مسماها من جهة لأخرى)، بالإضافة إلى رقابة المجتمع. ومهما تعددت هذه الجهات ومهما كان مستوى القائمين عليها فإن الرقابة الأكثر نجاعة والأكثر تحقيقاً للهدف منها هي الرقابة الذاتية. فإن لم يكن الوازع داخلياً والدافع لحسن الأداء وشفافيته وصحته ذاتياً، والقناعة شخصية بذلك فلن تنفع مع هذه النفس أي رقابة، بل إن الموظف سيستطيع التهرب منها والالتواء عليها وتغطية أفعاله بإجراءات ظاهرياً سليمة مئة بالمئة. والموظف المسلم الذي يتدبر قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، وقوله: (ﻣﺎ ﻳﻠﻔظ ﻣﻦ ﻗﻮﻝ ﺇﻻ ﻟدﻳﻪ ﺭﻗﻴب ﻋﺘﻴد)، (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا)، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)، والآيات كثيرة في هذا المضمون، والذي يستشعر حديث المصطفى (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)، والذي يستمع إلى قول ابن القيم (المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه)، والذي يقرأ أبيات الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل...خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة...ولا أن ما تخفيه عنه يغيب..
سيستشعر حجم الأمانة الملقاة على عاتقة والمسؤولية المناطة به بتأدية واجباته على أحسن وجه سعياً للوصول لدرجة الإحسان، بالتالي سيكون لذاته ولأعماله خير... رقيب...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق